في افتتاحية العدد الاستثنائي لمجلة رصيف 81 ، كتب رئيس التحرير المهندس فادي سيدو
مثل المهرج الذي يختبئ وراء قناع الضحك، نخفي حكايات الماضي في قلوبنا وننتظر الليل لنهمس بها... فادي سيدو
يعتبر المخرج السينمائي حميد بن عمرة من أبرز المخرجين الذين استطاعوا أن ينسجوا خيوط الإبداع مع العمق الفكري لطرح تساؤلات حول الحياة والوجود بأسلوب فني مميز. فيلمه "حزام" يُقدم تحفة فنية تتداخل فيها عناصر الدراما والرقص والموسيقى لتقدم رؤية سينمائية تحتفي بجماليات الحياة والمرأة. يتمحور الفيلم حول الراقصة الجزائرية آسيا قمرة، التي تستعرض قدرتها الفنية في إطار مشبع بثقافتها المحلية، حيث تتحول القلعة التي تسكنها إلى مسرح للأحداث المشوقة. يركز الفيلم على رمزية الحزام، الذي لا يُعتبر مجرد عنصر زينة، بل رمزًا للتجدد وسر الحياة، ليعكس رسالة قوية عن الجمال الداخلي والتوازن بين التقاليد والحداثة. يشهد الفيلم توليفة استثنائية بين العناصر الفنية والحبكة الغير تقليدية، مما يعزز مكانة بن عمرة كمخرج يؤدي دورًا رائدًا في إغناء السينما برؤى جديدة ومبتكرة.
بين يديه، تتحول الكاميرا إلى كائن حي، أشبه بالعقرب في دقته ووضوح رؤيته، لا تلسع إلا عندما تكون الحقيقة في سبات. إن هذه الكاميرا القوية هي أداة لتفسير هواجس المخرج، تلك الهواجس التي تتنقل بين الخاص منها والعام، معبرة عن رؤية فنية تسعى لإثارة الفكر قبل المشاعر. إنه يعيد الحياة إلى السينما بمزيج من المتعة البصرية والشغف الفلسفي، ليجعل من الشاشة نافذة تُطل منها الدلالات العميقة والأسئلة الجريئة. في تحديه للقطات التقليدية والمشاهد المعتادة، يفتح المخرج آفاقاً جديدة لرؤية الحياة، باعثاً إيحاءات تجديدية تسهم في إيقاظ الجمهور من غفلتهم نحو تأمل أوسع وأعمق في واقعهم المعاصر.
في عالم السينما حيث يمتزج الضوء بالظل، تظهر القصص كلوحة نابضة بالحياة، لا سيما عندما نحفر بأنفسنا ألواننا الخاصة على مشهد الحياة. هذه الألوان ليست مجرد انعكاسات خارجية، بل هي ظلال من مشاعرنا الحقيقية، تلك التي تصمد أمام مر الزمن كشهادة صامتة على مسارات حياتنا. حتى وإن ارتدينا قناعًا يخفي ألمنا أو فرحنا، تبقى الحقيقة دائماً حاضرة، تنتظر بهدوء أن يكشف الشفق عنها، ويتركها تتنفس في الهواء الطلق. يُبدع بن عمرة في تجسيد هذه التعقيدات الإنسانية، حيث يخلق لوحات سينمائية تعبر بصدق عن تناقضات الوجود، فيمزج ببراعة بين لحظات الضحك وصدى البكاء، ليصور الحياة بكل تناقضاتها وسحرها المعقد. هذا النهج الفني لا يروي القصص فحسب، بل يقدمها كحقيقة تصعب مقاومتها ودفعها نحو الاعتراف بتجليات الروح البشرية بأجمل صورها.
"ما نخاف الموت؛ نخاف أن يمر الوقت ويمضي التاريخ دون أن نترك أثراً لمن نحب" ... فادي سيدو ، تلك الفكرة تلخص رؤية حميد السردية حول الزمن والفن. بالنسبة لحميد، الزمن ليس مجرد مجرى للأحداث، بل هو وعاء يحمل فيه الفن خلاصة التجارب الإنسانية عبر العصور. الفن، في نظره، هو الوسيلة الوحيدة لكسر قيود الزمن، وهو الجسر الذي يربط الإنسان بالمستقبل، نسيج من لحظات الماضي والحاضر يمتد ليصل إلى من نحبهم. يعتقد حميد أن كل عمل فني هو شهادة على سعي الإنسان الدؤوب لترك بصمة لا تُمحى، يقاوم بها النسيان والتهميش. في مواجهة الفناء، يعتبر أن إبداع لحظة فنية هو تحقيق لمفهوم الحياة المستمرة، حيث يتجاوز الأثر الإبداعي كل حواجز الزمان ليبقى للأبد، شاهداً على وجودنا ومعبراً عن حبنا.
إن فيلم "حزام" لبن عمرة يتجاوز كونه مجرد عمل سينمائي ليصبح تجربة فنية تهدف إلى استكشاف التعقيدات الكامنة في الحياة البشرية، حيث يجمع بين مشاهد الفرح والحزن ليشكل مزيجاً متناغماً يعكس واقع الحياة. ومن خلال استخدام مهاراته الإخراجية المميزة، ينجح بن عمرة في تقديم الماضي والحاضر كوحدة فنية متناغمة، مما يعيد التأكيد على الرسالة الأولى للسينما وهي أن تكون مرآة تعكس الروح البشرية في رحلتها عبر الزمن والفن. إن الفيلم لا يكتفي بسرد القصص بل يسعى إلى تصوير عمق التجربة الإنسانية، موضحاً الأثر الذي تتركه الذكريات والتجارب على الشخصية الفردية والجماعية.