الدكتورة لجين الغصن
2 قراءة دقيقة
07 Jun
07Jun

كتبت الشاعرة الدكتورة لجين الغصن نثرية شعرية بعنوان " صدى " ، حيث تقول :

كل ضوء يختفي،
يتركُ خلفه ظلالاً طويلة،
وأنا أسير بلا وجهة،
لكن قلبي لا يتوقف عن السؤال
من قالَ إن الغياب مسافة؟
أحياناً يهمسُ لي صدى بعيد،
كأنه وعد بالعودة،
لكن الطريق لا يظهر،
والصوت يملأ الفراغ بلا نهاية
غبتَ أنت
واستفاقت الأشياء على أسماءٍ مستعارة:
السرير يدعى برداً
المرأة تدعى جماداً
والصوتُ لا يدعى شيء
غيابكَ ليس غياباً
كنتَ فتقاً في نسيجِ الوقت
شقَّ في الصبح عن اتساقه
غادرتَ...
ولا زالت المقاهي تحفظُ ارتباك الكرسي
والشاي المائل على شفتَي الفنجان
كأنكَ قلتَ شيئاً وانسحبت،
وتركتَ ظلكَ جالساً ...
يطالعني
الهواء يهمس لي
بأسرارٍ لا تُفهم،
والزمن يتكسَّر في كفي كرماد،
في هذا الغياب
أحيا بين الحروف المبعثرة،
ورسائلك المهترئة
أمشي بلا أقدام،
أصرخ بلا صوت،
وأغرق في أشباح الذكريات
وأحياناً
أغرق في عمق السكون،
ينساب صوتي كأنه سر مخفي
يبحثُ عن وادٍ بلا ماء
في قلبِ الضياع ، ينبضُ سؤال ،
هل أجد نفسي أم أفقدها أكثر؟
تتلاشى الصور خلف ستارٍ من النسيان
وأنا أعيشُ في حلمٍ بلا ملامح
تغرقُ أفكاري بلا مجاديف
 تنقذها من الموت المؤجل
أمشي إليك ...
في دروبٍ لا تُرى
كما يمشي الحنين إلى الجهاتِ المستحيلة،
وأنا أعلم أن الطريق
مجرَّدُ وهمٌ يعرجُ في لغتي،
و لا يصل
في الغياب،
أكتبكَ مرتين:
مرة كأني أحبك،
ومرة كأني نسيت كيف يكون الحب!
تعالَ...
على نغمات الذاكرة الباهتة
تعالَ..
ولو كذكرى تربتُ على كتفي
تعالَ..
كغيمةٍ تمرُّ ببطءٍ
فوقَ قلبٍ جفَّ فيه المطر.
فأنا وحدي،
ولاشيء هنا سوى الوقت،
يسألني
هل الغياب موتٌ؟
أم حياة ناقصة
تغيبتَ،
وتركتَ لي مفتاحاً
لا يفتح شيئاً
سوى الذاكرة.
تركتَ زيتونةً
على عتبةِ القلب،
تنادي الطيور التي لا تعود
ماذا أفعل بكل هذا الوطن
حين يغيب وجهك عنه؟
صارَ البحرُ مالحاً أكثر..
وصارت الشجرة
تميل للريحِ
ولا تنتظر عشَّاقها
يا أنت،
ألم تقل لي ذاتَ نبوءة:
"الغائب لا يعود،
لكنَّه يورَث الشوق "؟
فلماذا تركتني
أرثي نفسي
أنا امرأةً من هذا الغياب،
أفليتَ شعري على شرفاته،
كتبتُ على الجدرانِ:
"هنا مرَّ الحنينُ ذاتَ مساء"
ثمَّ بكيت
كما تبكي المنازل القديمة
حين يُخلع منها المفتاح
أحدِّث البحر عنك...
 فيرتجفُ
أزرع اسمك بين أغصانِ الزيتونِ
فلا يُثمر،
لكنَّ الريح تحفظه،
كما يحفظ القلب
قبلةً لم تُكتمل
تعالَ:
ولو مثل الوطن في الحلم
ولو مثل نشيدٍ
منسيٍّ في صدر قصيدة
ولو مثل دمعة ٍ
على كتفِ الغيمِ
أنا لا أريدكَ كاملاً
أريد ظلَّك فقط
ليهدأ هذا الغياب.

دراسة أدبية نقدية للنثرية الشعرية (صدى) - الشاعرة الدكتورة لجين الغصن

في عالم الأدب، يشكّل الشعر النثري ساحةً خصبةً للتأملات الفكرية والفلسفية، حيث يلتقي النثر بالشعر في نبضٍ واحد يتردد صداه بين ثنايا الكلمات. وفي هذه الدراسة الأدبية النقدية، نسعى لاستكشاف عمق النثرية الشعرية (صدى) التي أبدعتها الشاعرة الدكتورة لجين الغصن. تتسم هذه النثرية بلغةٍ تمتزج فيها الرمزية بالوضوح، لتشكل نصاً غامضاً ومفتوحاً على التأويل، يشد القارئ في رحلة تأملية بين المعنى والغياب.

يشغل مفهوم الغياب والحضور مكانةً محوريةً في هذه النثرية، إذ يطرح تساؤلات جريئة حول الوجود والعدم. في هذا السياق، يتساءل النص عن الغياب كمسافةٍ زمنية أو كحالةٍ عاطفية، مما يفتح أفقاً جديداً لفهم الحياة من زاوية أدبية وفلسفية. الكلمات تغمرنا بصدى الغياب، مثلما يشير ضوء الشمس الراحل إلى ظلالٍ طويلة، تاركًا خلفه أسئلة تتردد في النفس، هل الغياب هو الفقدان المطلق أم مجرد حياة غير مكتملة؟

تأملات فلسفية حول مفهوم الغياب والحضور

في العالم الأدبي والفلسفي، يُعتبر مفهوم الغياب والحضور من الأبعاد الأساسية التي تسلط الضوء على تجربتنا الإنسانية. الغياب ليس مجرد غياب مادي لشخص أو شيء؛ بل هو تأثيرًا عميقًا يجتاح النفس ويتجاوز الظاهر، ليصل إلى الجذور الروحية والفكرية. الحضور من جهة أخرى، يمثل الأجزاء الملموسة والملموسة من الوجود، حيث تتلاقى الحقيقة مع الإحساس المباشر. 

عندما تتأمل الدكتورة لجين الغصن في نصها الشعري النثري، يتمثل الغياب كمفهوم معقد يتحدى البعد المكاني والزمني. "من قالَ إن الغياب مسافة؟" سؤال يُظهر الإدراك العميق للطبيعة المرنة للغياب، حيث أنه لا يمكن تحديده بمسافات وإنما بحالة وجودية تتشكل من اللحظات الغائبة. الظلال الممتدة التي تعكس الضوء الراحل ترسم صورة فلسفية عن الكيفية التي يشكل بها الغياب حضور الأشياء. 

في هذه السياقات، الغياب لا ينحصر في فقدان بصري للأشياء بل يتمثل في فقدان المعنى وتحولاته الرمزية. السرير الذي يُسمى برداً والمرأة التي تُطلق عليها جماداً تعكس التجارب الذاتية لتغييرات لحظية في المعاني. من خلال هذا الغياب، يتجلى الحضور في مشروعه المضاد حيث يُخلق وسط الفراغ والذكريات المتراكمة. 

المفارقة تكمن في أننا نعيش دائماً في شد وجذب بين الحضور الصارخ والغياب المتلاشي، حيث يصبح الغياب حافزًا لطرح الأسئلة الوجودية. "هل الغياب موتٌ؟ أم حياة ناقصة؟" هو سؤال يتردد عبر النصوص، يجذبنا إلى تأمل أعمق للوجود والعدم. في النهاية، هذا التفاعل بين الغياب والحضور هو الذي يساهم في تشكيل فهمنا للأشياء ويضفي على الواقع طابعًا غنيًا ومعقدًا.

علائق الغياب في النثرية الشعرية: تحليل للمفاهيم والمشاعر

في النثرية الشعرية "صدى" للشاعرة الدكتورة لجين الغصن، يظهر الغياب كعنصر مركزي يحمل في طياته معانٍ عميقة ومشاعر متضاربة. يبدأ مفهوم الغياب في النص كفكرة تجسد الفقد المادي والمعنوي؛ إذ يصف الغياب كمسافة غير ملموسة تتسع في الفضاء الزمني والمكاني للمحبين. تبرز هذه النثرية الشعرية كل من الظلال التي تتبع كل ضوء يغيب، كرمزية للذكريات التي تبقى مع الإنسان رغم فقدانه للعزيز.

الغياب يتحدى القاعدة العامة للتواجد، ويطرح سؤالا فلسفيا حول ما إذا كان يمكن اعتبار الغياب موتًا مؤقتًا أو حياة ناقصة. يجسد الغياب في نصوص الغصن الخوف من الفراغ والوحدة، ففي تأملاتها تسير بلا وجهة لكن قلبها لا يتوقف عن التساؤل. تستعرض الشاعرة التناقض بين الغياب كحالة فردية وبين الوجود المستمر للسؤال والبحث عن الذات في هذا الغياب.

الأحاسيس المرتبطة بالغياب تتنوع بين الشوق والرثاء، إذ يصف الشاعرة كيف أن الفراق يحوّل الأشياء والأماكن إلى كيانات تحمل أسماء مستعارة، كأنّ الغياب يخلق جوًا من الهوية الضائعة والمكان المتغير. الصدى البعيد الذي يهمس بوعد العودة، يمثّل الوهم الذي يتشبث به القلب، بينما يلمّح إلى الأمل في استعادة التوازن. يبدو أن الغياب لا يُفهم هنا كمجرد غياب جسدي، بل كعملية معقدة تتشابك فيها الذكريات والهويات والتجارب العاطفية. يتجلى إحساس الإنسان بالضياع بين الحروف المبعثرة والرسائل المهترئة، مما يعكس بحثاً دائماً عن نوع من الكمال والمصالحة مع الذات المفقودة في خضم الغياب.

اللغة والرمزية في الشعر النثري للدكتورة لجين الغصن

تتميز اللغة في الشعر النثري للدكتورة لجين الغصن بغناها وتنوعها، حيث تتداخل العناصر اللفظية والرمزية لتشكل نسيجًا معقدًا ومتجانسًا. تستخدم الغصن الرمزية لفهم قضايا الغياب والحضور، مشيرةً إلى غياب الحبيب بمعانٍ متعددة قد تكون فنية أو فلسفية. تعبيرها الرمزي "كل ضوء يختفي، يترك خلفه ظلالاً طويلة" يأخذ القارئ في رحلة لاستكشاف تأثير الغياب وارتباطه بالذاكرة. 

تتلاعب الغصن بالكلمات لتخلق عالماً موازياً، حيث تكون الأشياء العادية معبرة عن معانٍ أعمق. فتسمية السرير بالبرد والمرأة بالجماد تعكس هشاشة المشاعر الإنسانية في ظل الغياب والفراغ. أما الصوت الذي يُملأ الفراغ بلا نهاية فيظهر كصورة رمزية ترمز للحنين المستمر والوعد بالعودة الذي يبقى معلقًا في اللامكان. 

تلجأ الغصن إلى الرموز الطبيعية كالشجر والريح والبحر لتعبر عن حالاتها الشعورية، فتوظيف رمز البحر المالح والأغصان غير المثمرة يشير إلى القلق والانغلاق العاطفي جراء الغياب. كما أن الريح التي "تحفظ" الأسماء تعبر عن العلاقة الخفية التي تبقى بين الغائب والحضور عبر الزمن. 

اللغة الغنية بالمجاز تخلق انطباعاً بالتباين بين العالم الداخلي للمشاعر والعالم الخارجي للواقع، حيث يصبح "كل ضوء يختفي" رمزاً للأمل المنطفئ والبحث المستمر في عمق الظلال التي خلفها الغياب. هذا التوازن الدقيق بين الرمز والواقع يمنح القصيدة طابعاً تأملياً ويجعلها تتفاعل مع القارئ بغنى وعمق.

التجربة العاطفية بين الوجود والعدم في النثرية الشعرية

التجربة العاطفية بين الوجود والعدم في النثرية الشعرية للدكتورة لجين الغصن تأخذ القارئ في رحلة تتسم بالتشابك العميق بين الحب ولحظات الفقد. "كل ضوء يختفي، يترك خلفه ظلالاً طويلة" تمثل في نثريتها هذا الشعور الدفين الذي يلازم القلب بعد الغياب، فالقلب لا يتوقف عن السؤال: "من قال إن الغياب مسافة؟" تتناول الشاعرة حالة الوجود في العدم حيث تتبدل الكائنات لتصبح صوراً غامضة في فضاءات لا تحصى. يشكل الصدى البعيد وعداً خافتًا بالعودة، وهو ما يعكس انزلاق الروح بين الأبعاد المختلفة للزمن والذكريات. 

في تلك اللحظات، تتجلى الفوضى العاطفية حيث "تستفيق الأشياء على أسماء مستعارة: السرير يدعى برداً"، تجسد هذه الصور الرمز الخيميائي الذي يعيد تشكيل المحيطات العاطفية وتحل الشاعرة لغز التفاعل البشري مع الفقدان. يتردد صداه في روح الأنثى التي "تدعى جماداً"، ليعكس التغيير الذي يضفيه الغياب على عناصر الوجود المجردة، مسافراً في تناقضات الحضور والغياب. 

الغياب هنا ليس مجرد انعدام، بل هو "شق في نسيج الوقت"، طريقة تفكير تأملية تتعارك مع الفراغ بحثًا عن الكينونة. تتوغل الشاعرة في هذه المساحات بين الممكن والمستحيل، حيث "الطريق لا يظهر، والصوت يملأ الفراغ بلا نهاية"، مؤلفةً تفاعلات معقدة بين الكائنات والأشياء. في هذا الكون الشعري، الغياب لا يخص الآخر فقط بل الروح نفسها التي تساءل: "هل أجد نفسي أم أفقدها أكثر؟"، محاولة للتحقق من الذات في غياب قوامها الفعلي. 

النصوص تشكل فسيفساء من الحنين المتأجج الذي يسري في تلك الدروب التي "لا تُرى"، والتي يستحيل معها الوصول إلى خطوات العودة بسبب الطرق المتكسرة التي تحمل توهجات من السكون والأحلام البديلة للوصول. هنا، تتحدى الأشباح المعنوية للذكريات قيود النسيان، وهي تعتمد على الحنين كقوة رافضة لقاعدة الغياب.

رمزية الطريق وتشتت الملامح

الطريق في أعمال الشاعرة الدكتورة لجين الغصن يمتد كرمز شامل للضياع والتشتت، حيث يُختزل العالم في مسار غير مرئي تتبدد فيه الملامح. تقول الشاعرة: "وأنا أسير بلا وجهة، لكن قلبي لا يتوقف عن السؤال"، لتشير بذلك إلى التيه الوجداني والانفصال عن نقطة الثبات. يتحول الطريق هنا إلى مرايا متكسرة تعكس حيرة الذات وتشتت الهوية؛ فيغدو السير تعبيراً عن حالة داخلية من الضياع بحيث أن "الطريق لا يظهر والصوت يملأ الفراغ بلا نهاية".

إن رمزية الطريق عند الغصن لا تقتصر على الرحلة الجغرافية بل تصبح معبراً لاستكشاف الذات: "أمشي بلا أقدام، أصرخ بلا صوت". الرمزية تحمل في طياتها ذلك التشتت النفسي، حيث تتلاشى ملامح الوجود الشخصي وتلتبس معالم الأزمة الداخلية. الطريق هو وهمٌ يُعرج في لغة النثرية لتبقى الملامح مبعثرة، وفي مساحة الغياب يهتز كل ما هو ثابت ويتفتت "كأنه وعد بالعودة، لكن الطريق لا يظهر"، هذا الجدل بين الوجود واللاوجود يشكل نواة تجربة الشاعرة، حيث تسعى للبحث عن المعنى وسط الفراغ وتحاول استجماع الملامح المتناثرة.

تنعكس حالة التشتت أيضاً في صور السير دون هدف واضح، فيغدو الحنين مسلكاً نحو "جهاتِ المستحيلة". إن رمز الطريق في شعر الغصن يصبح مساحة للاكتشاف والتحول، حيث تشكل المحاولات لإعادة تحديد المسار نوعاً من المقاومة للفراغ، ولكن الأصوات تُسمع بلا نهاية وتعبر عن الأمل في الوصول لشيء غائب. رغم ذلك، يظل الطريق رمزاً لوهمٍ يصحب الشاعرة، ويعكس رغبة مستمرة في مجابهة الضياع بالبحث عن وجهة تمنح التيه معنى.

البنية التصويرية في 'صدى' وتأثيرها على التجربة الحسية

في النثرية الشعرية "صدى"، تتجلى البنية التصويرية بوضوح، حيث تخلق تجربة حسية مدهشة للقارئ من خلال استخدام الصور المبتكرة واللغة الشاعرية. تعكس الصور الفنية الواقعية والخيالية مشاعر الشاعرة لجين الغصن بأشكال بصرية وسمعية غنية. على سبيل المثال، تعبر عن الغياب كمفهوم ملموس من خلال استحضار صور "ظلال طويلة" خلف "كل ضوء يختفي"، مما يثير شعوراً بالامتداد اللامتناهي للذكريات والآثار العاطفية للغياب.

تعتمد الشاعرة على التشبيه والاستعارة لتكوين لوحات حسية تمتزج فيها العناصر الطبيعية بالرموز المجردة، مثل تجسيد داخل النظم التي تربط بين العناصر العادية والمشاعر العميقة. تتداخل الصور المرئية مع الحسية بطريقة تبدو فيها الحياة اليومية وكأنها تتلاشى وتتحول إلى مشاهد حالمة، تُظهر كل تفاصيلها الملموسة والمجردة. الإشارة إلى "الشاي المائل على شفتَي الفنجان" تخلق إحساساً بالتوتر والقلق العالق في اللحظات القليلة قبل الغياب.

تتعمق البنية التصويرية أيضاً في العوالم الداخلية للشاعرة، حيث تُشَرِّك القارئ بشعور بالحنين والضياع من خلال نسيج من الصور التي تعكس الاضطراب العاطفي. تجسد الكلمات مشاعر القلق الذي يعاني منه الشخص الغارق في الذكريات، كالهواء الذي "يهمس بأسرارٍ لاتُفهم" والزمن الذي "يتكسَّر في كفي كرماد". هذه الصور ليست مجرد خلفية سردية، بل هي جزء لا يتجزأ من التعبير الشعري، مما يعزز من استجابة القارئ العاطفية ويخلق ارتباطاً أعمق مع النص.

دلالات الصوت والصمت في أعمال لجين الغصن

في أعمال لجين الغصن، يُعتبر الصوت والصمت عناصر جوهرية تُجسد التوترات والتموجات في تجربة الغياب والحضور. إن القصيدة تلتقط اللحظات بين الكلمات، وتُشير إلى أن صدى الأصوات ليس إلا انعكاسات لعاطفة كامنة تشير إلى حضور يملأ الفراغات بالرغم من غيابه المادي. لجين تبرز قدرة الصوت على تحمل مشقة العبء العاطفي عبر الإيقاعات المتناقضة بين الهمس والصراخ والتي تعبر عن حالات نفسية متشابكة تترواح بين الأمل واليأس.

الصوت في نصوصها هو مرآة للأعماق الروحية للنفس البشرية، حيث يُستدعى في غياب الآخر للتأكيد على حيوية الوجود حتى في الصمت المُطلق. النصوص تساءلت "من قالَ إن الغياب مسافة؟"، فيستلهم القارئ إدراك أن الصمت غالبًا ما يتجاوز مجرد نقص في الصوت، ليصبح تعبيرًا عن الغياب الذي يترك أثره في الفضاء.

الرابط بين الصوت والصمت في أعمالها يظهر أيضًا في الطريقة التي تتلاشى بها الحكايات والصدى ليبقى الفراغ أكثر عمقًا وحضورًا. الفراغ هنا ليس غيابًا مطلقًا بقدر ما هو مجال مليء بصور وكلمات تبدو تائهة ولكنها مشحونة بالمعاني. من خلال الصمت، تتجلى حضور اللحظات المخفية والذكريات المبعثرة كبذور تحتاج إلى صوت لتعلن عن وجودها. يتبدّى السؤال المركزي في النصوص: هل ينقل الصوت وعدًا بالعودة، أم ربما ينغمس في الفراغ ليكسبه بُعدًا جديدًا من الحركة والثبات في نفس الوقت؟ بهذا الطريقة، يشكل الصوت والصمت معا توازنًا دقيقًا بين حضور الغياب وغياب الحضور.

إعادة اكتشاف الذات في ظل الذاكرة

بين طيات الغياب والذاكرة الثابتة تكمن رحلة إعادة اكتشاف الذات. كل ضوءٍ يختفي، يُخلف وراءه ظلالاً طويلة تجعل من الذاكرة شاشةً تُعرض عليها مشاهد الماضي. تمر الأحداث في ذهن الإنسان بمزيج من الحنين وعدم اليقين، فيتصارع مع سؤال داخلي يطرح نفسه بلا هوادة: هل أجد نفسي أم أفقدها أكثر؟

التشتت الذي يرافق ذاكرة الغياب يعيد تشكيل إدراك الفرد لذاته ولما حوله. هو يسير بلا وجهة محددة، يشعر وكأن قلبه يسأله عن ماهية الغياب ومسافته؛ ربما هذا الغياب ليس سوى تجربة عميقة لإعادة تعريف النفس بمعزل عن الآخر. في كل غياب يكمن جزء من حضور الذات الذي لم يتم اكتشافه بعد. يترك الحاضر بصماته، وتصبح الرسائل المهترئة والحروف المبعثرة وسيلة لاستكشاف هذه الذات المخفية.

الذاكرة تلعب دور الوسيط في هذه الرحلة، حيث تمتزج الصور والذكريات مع الواقع ليصنع الوعي الشعري الذاتي لحظة تحول مثير. تتلاشى الصور وراء ستار من النسيان، ويغرق الصوت في صمت السكون، لكن رغم ذلك ينبض سؤال في القلب عن وجود الذات. فيظل يقلب في ماضٍ محمل بروائح الذاكرة، يبحث عن إجابات تجره للضياع والوجدان.

الوصول إلى النفس في هذا السياق ليس هو الحل النهائي؛ قد يكون الطريق مجرد وهم يعكس تصورات الماضي على مخيلة الحاضر. لكن حتى في هذا التيه، يمكن للنفس أن تكتشف أفكارها الخاصة ومشاعرها ومكامن قوتها، الشيء الذي قد يُنقذها من موت مؤجل، ليعيد إليها حياتها بمعنىً جديد وعمقٍ أكبر.

الخاتمة

في الختام، تمثل النثرية الشعرية للدكتورة لجين الغصن مغامرة أدبية تتجاوز حدود اللغة والمعاني التقليدية لتسبر أغوار النفس البشرية في حالة الغياب والحضور. خلال هذه الرحلة المعقدة، نُدرك أن كل ضوء يختفي، يترك لنا ظلالًا تمتد عبر الزمن والذاكرة. الغياب، كما تصفه الغصن، ليس مجرد مسافة مادية بل حالة وجدانية تُثير الزمن وتُعيد تشكيل الواقع بأبعاد غير مرئية تتجاوز الحواس التقليدية. 


تمنحنا الغصن، بكلماتها المغلفة بالرمزية، فرصة لرؤية الغياب والحضور كحالة وجودية تُحاكي الغموض البشري العميق. في غياب الآخر، تتجلى التجربة العاطفية في العدم، حيث تصبح كل لحظة على تواصل بالماضي والمستقبل عبر قنوات الحنين والشوق، تُسائل الواقع وتُعيد صياغته بشكل متجدد. الغياب هنا معبر عن وحدة لا يمكن تحجيمها بلغةٍ مفردة، لكنه يُحاكي تجريب الحب والفقدان كما لو أنهما وجهان لعملة واحدة، وعبر الاستجابة لشغف الكتابة والتعبير، نجد أنفسنا بين أسئلة الهوية والزمن غير المكتملة.

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.